فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة الناس:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}
الاستعاذة في هذه السورة برب الناس، ملك الناس، إله الناس. والمستعاذ منه هو: شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس.
والاستعاذة بالرب، الملك، الإله، تستحضر من صفات الله- سبحانه- ما به يدفع الشر عامة، وشر الوسواس الخناس خاصة.
فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي. والملك هو المالك الحاكم المتصرف. والإله هو المستعلي المستولي المتسلط.. وهذه الصفات فيها حماية من الشر الذي يتدسس إلى الصدور.. وهي لا تعرف كيف تدفعه لأنه مستور.
والله رب كل شيء، وملك كل شيء، وإله كل شيء. ولكن تخصيص ذكر الناس هنا يجعلهم يحسون بالقربى في موقف العياذ والاحتماء.
والله- برحمة منه- يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته إلى العياذ به والالتجاء إليه، مع استحضار معاني صفاته هذه، من شر خفي الدبيب، لا قبل لهم بدفعه إلا بعون من الرب الملك الإله. فهو يأخذهم من حيث لا يشعرون، ويأتيهم من حيث لا يحتسبون. والوسوسة: الصوت الخفي. والخنوس: الاختباء والرجوع. والخناس هو الذي من طبعه كثرة الخنوس.
وقد أطلق النص الصفة أولا: {الوسواس الخناس}.. وحدد عمله: {الذي يوسوس في صدور الناس}. ثم حدد ماهيته: {من الجنة والناس}.. وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة والتلفت والانتباه لتبين حقيقة الوسواس الخناس، بعد إطلاق صفته في أول الكلام؛ ولإدراك طريقة فعله التي يتحقق بها شره، تأهبا لدفعه أو مراقبته!
والنفس حين تعرف- بعد هذا التشويق والإيقاظ- أن الوسواس الخناس يوسوس في صدور الناس خفيةوسرا، وأنه هو الجنة الخافية، وهو كذلك الناس الذين يتدسسون إلى الصدور تدسس الجنة، ويوسوسون وسوسة الشياطين.. النفس حين تعرف هذا تتأهب للدفاع، وقد عرفت المكمن والمدخل والطريق!
ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة. ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا، فأذن فيها- سبحانه- لحكمة يراها! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة. فقد جعل له من الإيمان جنة، وجعل له من الذكر عدة، وجعل له من الاستعاذة سلاحا.. فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم!
عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا غفل وسوس». وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير. ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين!
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس، لأنه الرفيق المأمون!
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جبارا مفسدا في الأرض، مهلكا للحرث والنسل!
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه.
وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله.
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها.. وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيبا!
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية. ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة!
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه {الخناس}.. فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس. ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره، ويحمي مداخل صدره. فهو- سواء كان من الجنة أم كان من الناس- إذا ووجه خنس، وعاد من حيث أتى، وقبع واختفى. أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق: «فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا غفل وسوس».. وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس. فهو خناس. ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة.
ولكنها- من ناحية أخرى- معركة طويلة لا تنتهي أبدا. فهو أبدا قابع خانس، مترقب للغفلة. واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات.. والحرب سجال إلى يوم القيامة؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء:
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}..
وهذا التصور لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها- سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر- من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوبا على أمره فيها فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب فهو آخذ بناصيته. وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلهم فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها يستند ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها. يستند إلى الرب الملك الإله. والشر يستند إلى وسواس خناس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء وينهزم أمام العياذ بالله..
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة..
والحمد لله أولا وأخيرا. وبه الثقة والتوفيق.. وهو المستعان المعين.. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، الإحالة على هذه السورة عند كلامه على قوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2]، في سورة هود، فقال علي تلك الآية: فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك في عبادته شيء.
وساق الآيات المماثلة لها ثم قال: وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة، وسنقضي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة الناس، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى اهـ.
وإن في هذه الإحالة تحميل مسؤولية الاستقصاء حيث لم يكتف بما قدمه في سورة الفاتحة، ولا فيما قدمه في سورة هود، وجعل الاستقصاء في هذه السورة، ومعنى الاستقصاء: الاستيعاب إلى أقصى حد.
وما أظن أحدا يستطيع استقصاء ما يريده غيره، ولاسيما ما كان يريده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وما يستطيعه هو.
ولكن على ما قدمنا في البداية: أنه جهد المقل ووسع الطاقة. فنستعين الله ونستهديه مسترشدين بما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورتي الفاتحة وهود، ثم نورد وجهة نظر في السورتين معًا الفلق والناس، ثم منهما وفي نسق المصحف الشريف، آمل من الله تعالى وراج توفيقه ومعونته.
أما الإحالة فالذي يظهر أن موجبها هو أنه في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال: رب الناس، ملك الناس، إله الناس، ولكأنها لأول وهلة تشير إلى الرب الملك هو الإله الحق الذي يستحق أن يعبد وحده.
ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة الإخلاص قبلها: هو الله أحد، الله الصمد، وهذا هو منطق العقل والقول الحق، لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية، والعبودية تستلزم التأليه والتوحيد في الألوهية، لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك، وإن كان مالكه عبدًا مثله، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه، وكيف بالممالك الإله الواحد الأحد الفرد الصمد؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث: الرب الملك الإله، في أول افتتاحية أول المصحف: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 2-4]، والقراءة الأخرى {مالك يَوْمِ الدين}.
وفي أول سورة البقرة اول نداء يوجه للناس بعبادة الله تعالى وحده، لأنه ربهم مع بيان الموجبات لذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
ثم بين الموجب لذلك بقوله: {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21].
وقوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: 22].
وهذا كله من آثار الربوبية واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة، فلا تجعلوا لله أندادًا أيضًا في عبادة، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك.
ويقوي هذا الاختصاص إضافة الرب للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أطواره منذ البداين: بدأ الخلقة وبدأ الوحي، في قوله: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2]، ثم في نشأته {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3]- إلى قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فآوى وَوَجَدَكَ ضَآلًا فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلًا فأغنى} [الضحى: 6-8].
وجعل الرغبة إليه في السورة بعدها {وإلى رَبِّكَ فارغب} [الشرح: 8]، بعد تعداد النعم عليه من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، ثم في المنتهى قوله: {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} [العلق: 8].
قوله تعالى: {مَلِكِ الناس}، في مجيء ملك الناس بعد رب الناس، تدرج في التنبيه على تلك المعاني العظام، وانتقال بالعباد من مبدإ الإيمان بالرب لماش أهدوه من آثار الربوبية في الخلق والرزق، وجميع تلك الكائنات، كما تقدم في أول نداء وجه إليهم {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: 21-22].
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقروا بموجبها، بأن الذي أوجدها هو ربهم، ومن ثم ينتقلون إلى الدرجة الثانية، وهي أن ربه الذي هذه أفعاله هو ملكه وهو المتصرف في تلك العوالم، وملك لأمره وجميع شؤونه، ومالك لأمر الدنيا والآخرة جميعًا.
فإذا وصل بإقراره إلى هذا الإدراك، أقر له صرورة له بالألوهية وهي المرتبة النهاية. إله الناس أي مألوهم ومعبودهم وهو ما خلقهم إليه، {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وفي إضافة الملك إلى الناس من إشعار الاختصاص، مع أنه سبحانه ملك كل شيء، فيه ما في إضافة الرب للناس المتقدم بحثه، فهو سبحانه ملك الملك كما في قوله: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
وقوله تعالى: {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} [التغابن: 1].
وقوله: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} [البقرة: 107]، وقوله: {الملك القدوس} [الحشر: 23].
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالملك لا شريك له في ملكه، كما قال تعالى: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ ولدا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} [الإسراء: 111] فبدأ بالحمد أولًا.
ومثله قوله: {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83]، بدأ بتسبيح نفسه وتنزيهه لعموم الملك ومطلق التصرف ونفي الشريك لأن ملكه ملك تصرف وتدبير مع الكمال في الحمد والتقديس.
وكقوله: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].
وبهذه النصوص يعلم كمال ملكه تعالى، ونقص ملك ما سواه من ملوك الدنيا، ونعلم أن ملكهم بتمليك الله تعالى إياهم كما في قوله تعالى: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ} [البقرة: 247].
وقوله: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
ومن المعلومأن ملوك الدنيا ملكهم سياسة ورعاية، لا ملك تملك وتصرف، وكما في قوله تعالى: {وَقال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال قال إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
والجدير بالتنبيه عليه بهذه المناسبة أن (بريطانيا) تحترم نظام الملكية إلى هذا الوقت الحاضر، بدافع من هذا المعتقد، وأنه لا ملك إلا بتمليك الله إياه، وأن ملوك الدنيا باصطفاء من الله.
والآية تشير إلى ما نحن بصدد بيانه، من أن ملوك الدنيا لا يملكون أمر الرعية لأن طالوت ملكًا، وليس مالكًا لأموالهم.
بينما ملك الله تعالى ملك خلق وإيجاد وتصرف كما في قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
وعليم قدير هنا من خصائصه سبحانه وتعالى، فينصرف في ملكه بعلم وعن قدرة كاملتين سبحانه، له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير.
وتظهر حقيقة ذلك إذا جاء اليوم الحق، فيتلاشى كل ملك قلَّ أو كثر، ويذل كل ملك كبر أو صغر، ولم يبق إلا ماكه تعالى يوم هم بارزون، لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار.
وفي سورة الفاتحة {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4].
والقراءة الأخرى {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4].
في القراءتين معًا ِعار بالفرق بين ملك الله وملك العباد، كالفرق بين الملك المطلق والملك النسبي، إذ الملك النسبي لا يملك، والملك المطلق، فهو الملك القدوس، والذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجع الخلائق كلهم.
ومن كانت هذه صفاته، فهو المستحق لأن يعبد وحده سبحانه، ولا يشرك معه أحد، وهذا هو شعار العبد في الركن الخامس من أركان الإسلام، حين يهلّ بالتلبية: إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
قوله تعالى: {إله الناس}.
هذه هي المرتبة الثالثة في كمال العبودية، وإفراد الله تعالى بالألوهية.
وهذا هو محل الإحالة، التي عناها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يظهر، لأن العبد إذا أقر بأن الله تعالى ربه وخالقه، ومنعم عليه أوجده من العدم، ورباه بالنعم، لا رب سواه، ثم تدرج بعلمه ويقينه إلى الإقرار بأن ربه هو مليكه والمتصرف في أمره وحده، وأنه لا يملك هو نفسه مع الله شيئًا، ولا يملك له أحد من الله شيئًا.
وأن كل تصرفات العالم كله بأمره فلا يصل إليه خير إلا بإذنه، ولا يصرف عنه ضرر إلا بأمره.
وعرف في يقين: أنه عبد مملوك لمن بيده ملكوت السماوات والأرض، توصل بعلمه هذا أن من كانت هذه صفاته، كان هو وحده المستحق لإفراده بالعبادة وبالألوهية، لا إله إلا هو.
فيكون في خاتمة المصحف الشريف انتزاع الإقرار من العبد لله سبحانه بطريق الإلزام، بالمعنى الذي أرسل الله به رسله، وأنزل من أجله كتبه، وهو أن يعبد الله وحده، وهو ما صرح الشيخ به في الإحالة السابقة.
وإذا كان الشيخ رحمه الله، قد نبه على مراعاة خاتمة المصحف، فإنا لو رجعنا إلى أول المصحف وآخره لوجدنا ربطًا بديعًا، إذ تلك الصفات الثلاث في سورة الناس موجودة في سورة الفاتحة، فاتفقت الخاتمة مع الفاتحة في هذا المعنى العظيم، إذ في الفاتحة الحمد لله رب العالمين، وملك يوم الدين، فجاءت صفى الربوبية والملك والألوهية في لفظ الجلالة.
وتكون الخاتمة الشريفة من باب عود على بدء، وأن القرآن فيما بين ذلك شرح وبيان لتقدير هذا المعنى الكبير.
وسيأتي لذلك زيداة إيضاح في النهاية، إن شاء الله تعالى.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)}
كلاهما صيغة مبالغة من الوسوسة والخنس، بسكون النون.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى الوسوسة، والوسواس لغة وشرعًا، أي المراد عند كلامه على قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قال ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} [طه: 120] الآية.
وبين مشتقاتهما وأصل اشتقاقهما، وهوي يدور على أن الوسوسة: الحديث الخفي. والخنس: التأخر، كما تكلم على ذك في دفع إيهام الاضطراب، حيث اجتمع المعنيان المتنافيان.
لأن الوسواس: كثير الوسوسة، ليضل بها الناس. والخناس: كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس.
وأجاب بأن لكل مقام مقالا، وأنه يوسوس عند غفلة العبد عن ذكر ربه، خانس عند ذكر العبد ربه تعالى، كما دل قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، إلى آخره. اهـ.
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
اختلف في الظرف هنا، هل هو ظرف للوسواس حينما يوسوس، فيكون موجودًا في الصدور، ويوسوس للقلب، أو هو ظرف للوسوسة. ويكون المراد بالصدور القلوب، لكونها حالة في الصدور من باب إطلاق المحل، وإرادة الحال علا ما هو جار في الأساليب البلاغية.
وعلى حد قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17]، أطلق النادي، وأراد من يحل فيه من القوم.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث تعدية الوسوسة تارة بإلى وتارة باللام، ففي سورة الأعراف {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20]، وفي طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} [طه: 120].
وحاصل ما ذكره في الجمع بينهما أحد أمرين: إما أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وذكر شواهده، وإما أن يكون وسوس له، أي لأجله ووسوس إليه أي أنهى إليه الوسوسة، ولكن هنا قال: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس}، ولم يقل: إلى صدور الناس، فهل هو من باب نيابة حروف الجر بعضها عن بعض أيضًا؟ أم هي ظرف محض؟
والظاهر أنها ظرف، ولكن هل هو الظرف للوسواس، أو ظرف للوسوسة نفسها؟
وبالنظر إلى كلام المفسرين، فإن كلام ابن جرير يحتمل اعتبار المعنيين بدون تعيين.
وأما القرطبي، والألوسي، فصرحا بمال ظهر لهما ووصلا إليه.
فقال القرطبي: قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من مجرى الدم في العروق سلطة الله على ذلك وذكر الحديث «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه». وقال: إن أبا ثعلبة الخشني قال: سألت ربي أن يريني الشيطان، ومكانه من ابن آدم، فرأيته يداه في يديه ورجلاه في رجليه ومشاعيه في جسده، غير أن له خطمًا كخطم الكلب؟ فإذا ذكر الله خنس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه.
أما الألوسي فقد صرح بالتقسيم الذي أوردناه، فقال: الذي يوسوس في صدور الناس. قيل: أريد قلوبهم مجازًا.
وقال بعضهم: إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز، فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه، ولا مانع عقلًا من دخوله في جوف إنسان. وساق الحديث أيضًا «إن الشيطان يجري» إلى آخره.
ومراده بالمجاز ما قدمنا من إطلاق المحل وإرادة الحال.
وذكر ابن كير عن ابن عباس ومجاهد أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن الصدر ظرف للوسواس، وأنه يوقع الوسوسة في القلب. على ما قاله ابن عباس ومجاهد رحمهم الله.
وفي لقظ الناس هنا المضاف إليه الصدور: اختلاف في المراد منه، فقيل: الإنس الظاهر الاستعمال.
وقيل: الثقلان: الإنس والجن.
وإن إطلاق الناس على الجن مسموع، كما حكاه القرطبي.
قال عن بعض العرب:
إنه كان يحدث فجاء قوم من الجن فوقفوا، فقيل: من أنتم: فقالوا: ناس من الجن، وهذا معنى قول الفراء.
واستدل صاحب هذا القول بطريق القياس باستعمال لفظي رجال ونفر في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن} [الجن: 6]، وقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجن} [الأحقاف: 29].
وعليه يكون الوسواس المستعاذ منه يوسوس في صدور الجن والإنس.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الوجه: ولكنه رده وضعفه، لأن لفظ الناس أظهر وأشهر في الإنس، وهو المعروف في استعمال القرآن، ولأنه على هذا يكون قسم الشيء قسمًا منه، لأنه يجعل الناس قسيم الجن، ويجعل الجن نوعًا من الناس اهـ. ملخصًا.
وعلى كل، فإن منهج الأضواء أن ما كان محتملًا وكان أكثر استعمالات القرآن لأحد الاحتمالين، فإن كثرة استعماله إياه مرجحًا، وجميع استعمالات القرآن للفظ الناس إنما هو في خصوص الإنس فقط، ولم تستعمل ولا مرة واحدة في حق الجن مع مراعاة استعمالها في هذه السورة وحدها خمس مرات، حتى سميت سورة الناس.
أما القياس على لفظتي رجل ونفر، فقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا بأنهما وردا مقيدين رجال من الجن، نفرًا من الجن.
أما على الإطلاق فلم يردا، وهكذا لفظ الناس فلا مانع من استعماله مقيدًا ناس من الجن. أما على الإطلاق فلا.
وعليه، فحيث ورد لفظ الناس هنا مطلقًا فلا يصح حمله على الجن والإنس معاص، بل يكون خاصًا بالإنس فقط، ويكون في صدور الناس أي في صدور الإنس.
وقد ذكر أبو السعود معنى آخر في لفظ الناس: وهو أن الناسي عن النسيان، حذفت الياء تخفيفًا لأن الوسواس لا يوسوس إلا في حين النسيان والغفلة.
وعليه، يكون حذف الياء كحذفها من الداع في قوله: {يَوْمَ يَدْعُو الداع} [القمر: 6] ونحوه.
ولكن يبقى على هذا القول بيان من المراد بالناسي، أهو من الإنس أم من الجن، فلم يخرج الاحتمالين السابقين، مع أن هذا القول من لوازم معنى الوسواس الخناس.
ويرد على هذا القول جمع الصدور وإفراد الناس، والجمع لا يضاف إلى جمع، أي جمع الصدور، لأن الفرد ليس له جمع من الصدور، فيقابل الجمع بجمع، أو يكتفي بالمفرد بمفرد.
وقد جاء في إضافة الجمع إلى المثنى في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
قال أبو حيان: وحسنه أن المثنى جمع في المعنى، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالًا من المثنى والتثنية دون الجمع.
كما قال الشاعر:
فتخالسا نفسيهما بنوافذ ** كنواف العيط التي لا ترفع

وهذا كان القياس وذلك أن المعبر عن المثنى بالمثنى، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع بأن التثنية جمع في المعنى والإفراد، لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر.
كقوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي

يريد بطني، وغلط ابن مالك في التسهيل إذ قال: ونختار الإفراد على لفظ التثنية، فتراه غلط ابن مالك في اختياره جواز إضافة الجمع إلى المفرد، كما أنه قال: ولا يجوز ذلك إلا في الشعر، وأنه مع المثنى لكراهية اجتماع التثنيتين، فظهر بطلان قول أبي السعود.
أما الراجح في الوجهتين في معنى الناس المتقدم ذكرهما. فهو الوجه الأول، وهو أنهم الإنس، وأن قوله تعالى: {مِنَ الجنة والناس}، بيان لمن يقوم بالوسوسة، أي بيان للوسواس الخناس وأنه من كل من وسواس الجنة ووسواس الناس.
ويظهر ذلك في أمور:
منها: أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته تبعًا له فهو في حق الناس أظهر.
ومنها: أننا لو جعلنا الناس الأولى عامة لمن يوسوس إليه كان من الجنة، والناس مصدر الوسوسة، فيكون من وسواس الناس من يوسوس في صدور الجن. وهذا بعيد.
ومنها: أنه لو كان لفظ الناس يشمل الجن والإنس، لما احتيج إلى هذا التقسيم الجنة والناس، واكتفى في الثانية بما اكتفى به في الأولى، وكان يكون الذي يوسوس في صدور الناس، ولكن جاء بيان محل الوسوسة صدور الناس، ثم جاء مصدر الوسوسة الجنة والناس، والله تعالى أعلم.
تنبيه:
ذكر أبو حيان في آخر تفسيره مقارنة لطيفة بين سورتي المعوذتين، فقال: ولما كانت مضرة الدين، وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث، الرب، والملك، والإله، وإن اتحد المطلوب.
وفي الاستعاذة لفتى كريمة، طالما كنت تطلعت إليها في وجهتى نظر، أحداهما: بين السورتين، والأخرى بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف، سيأتي إيرادهما إن شاء الله.
إلا أنه على وجهة نظر أبي حيان، وهي أنه تعالى في سورة الفلق جاء في الاستعاذة بصفة واحدة وهي رب الفلق.
وفي سورة الناس جاء في الاستعاذة بثلاث صفات، مع أن المستعاذ منه في الأولى ثلاثة أمور، والمستعاذ منه في الثانية أمر وأحد، فاخطر الأمر الواحد جاءت الصفات الثلاث.
ويقال أيضًا من جهة أخرى: إن المستعاذ منه في السورة الأولى أمور تأتي من خارج افنسان، وتأتيه اعتداء عليه من غيره، وقد تكون شرورًا ظاهرة، ومثل ذلك قد يمكن التحرز منه أو اتقاؤه قبل وقوعه، وتجنبه إذل علم به. بينما الشر الواحد في الثانية يأتيه من داخليته وقد تكون هواجس النفس وما لا يقدر على دفعه، إذ الشيطان يرانا ولا نراه، كما في قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
وقد يثر عليه خلجات نفسه ونوازع فكره، فلا يجد له خلاصًا إلا بالاستعاذة واللجوء إلى رب الناس ملك الناس إله الناس.
أما الوجهتان اللتان نوهنا عنهما، فالأولى بين السورتين وهي مما أورده أبو حيان: إذ في سورة الفلق قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} [الفلق: 1]، ورب الفلق تعادل قوله: {رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2].
لأنه ما من موجود في هذا الكون إلا وه مفلوق عن غيره.
في الزرع: {فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95].
وفي الزمن: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96].
وفي الحيوانات: {الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].
وفي الجمادات يشير إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 30-31].
فرق الفلق تعادل رب العالمين، فقابلها في الاستعاذة بعموم المستعاذ منه، من شر ما خلق.
ثم جاء ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، وهو من شر غاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، وحاسد إذا حسد.
فالمستعاذ به صفة واحدة، والمستعاذ منه عموم ما خلق جملة وتفصيلًا، بينما في السورة الثانية جاء بالمستعاذ به ثلاث صفات العظمة لله تعالى: الرب والملك والإله.
فقابل المستعاذ منه وهو شيء واحد فقط، وهو الوسواس الخناس، وهذا يدل على شدة خطورة المستعاذ منه.
وهو كذلك، لأننا لو نظرنا في واقع الأمر لوجدنا مبعث كل فتنة ومنطلق كل شر عاجلًا أو آجلًا، لوجدناه بسبب الوسواس الخناس. وهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان.
وأول جناية وقعت على الإنسان الأول، إنما هي من هذا الوسواس الخناس، وذلك أن الله تعالى لما كرَّم آدم، فخلقه منها رغدًا حيث ما شاءا، إلا من الشجرة الممنوعة، فوسوس إليهما الشيطان حتى أكلا منها ودلاهما بغرور، حتى أهبطوا منها جميعًا بعضهم لبعض عدو.
وبعد سكناهما الأرض أتى ابنيهما قابيل وهابيل فلاحقهما أيضًا بالوسوسة، حتى طوَّعت نفس أحدهما قتل أخيه فأصبح من النادمين.
وهكذا بسائر الإنسان في حياته بالوسوسة حتى يربكه في الدنيا، ويهلكه في الآخرة، ولقد اتخذ من المرأة جسرًا لكل ما يريد. وها هو يعيد الكرة في نزع اللباس عن أبوينا في الجنة، فينتزعه عنهما في ظل بيت الله الحرام في طوافهم قبل البعثة ولا يزال يغويه، وعن طريق المرأة في كل زمان ومكان ليخرجه عن الاستقامة كما أخرج أبويه من الجنة.
ولا يزال يجلب على الإنسان بخيله ورجله بارًا بقسمه بين يدي الله بعزته ليغوينهم أجمعين.
وإن أخطر أبواب الفساد في المجتمعات لهي عن المال أو الدم أو العرض، كما في الحديث في حجة الوداع: «أن إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا» إلى آخره.
وهل وجدت جناية على وأحد منها، إلا من تأثير الوسواس الخناس. اللَّهم لا.
وهكذا في الآخرة.
وقد قال تعالى الموقف جليًا في مقالة الشيطان البليغة الصريحة: {وَقال الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}
[إبراهيم: 22] الآية.
ولقد علم عدو المسلمين أن أخطر سلاح على الإنسان، هو الشك ولا طريق إليه إلا بالوسوسة، فأخذ عن إبليس مهمته وراح يوسوس للمسلمين في دينهم وفي دنياهم، ويشككهم في قدرتهم على الحياة الكريمة مستقلين عنه، ويشككهم في قدرتهم على التقدم والاستغلال الحقيقي، بل وفي استطاعتهم على الإبداع والاختراع، ليظلوا في فلكه ودائرة نفوذه، فيبقى المسلمون يدورون في حلقة مفرغة، يقدمون رجلًا ويؤخرون أخرى.
والمتشكك في نتيجة عمل لا يقدم عليه أبدًا، بل ما يبنيه اليوم يهدمه غدًا، وقد أعلن عن هذه النتيجة الخطيرة رئيس مؤتمر المستشرقين في الشرق الأوسط، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حينما انعقد المؤتمر في بيروت لعرض نتائج أعمالهم ودراسة وأساليب تبشيرهم.
فتشكى المؤتمرون من أن لهم زهاء أربعين سنة من عملهم المتواصل، ولم يستطيعوا أن ينصِّروا مسلمًا، واحدًا، فقال رئيس المؤتمر إذا لم نستطع أن ننصِّر مسلمًا، ولكن استطعنا أن نوجد ذبذبة في الرأي، فقد نجحنا في عملنا.
وهكذا منهج العدو، تشكيك في قضايا الإسلام ليوجد ذبذبة في عقيدة المسلمين، فعن طريق الميراث تارة، وعن طريق تعدد الزوجات أخرى، وعن دوافع القتال، وعن استرقاق الرقيق، وعن وعن.
حتى وجد من أبناء المسلمين من يتخطى حدود الشك إلى التصديق، وأخذ يدعو إلى ما يدعو إليه العدو، وما ذاك كله إلا حصاد ونتائج الوسواس الخناس.
فلا غرو إذا أن تجمع الصفات الجليلة الثلاث: رب الناس، ملك الناس، إله الناس. هذه وجهة النظر الأولى بين سورتي الفلق والناس.
أما الوجهة الثانية وهي بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف، بقوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 2-7].
وفي هذه البداية الكريمة بث الطمأنينة في القلب المعبر عنها بالحمد، عنوان الرضى والسعادة والإقرار لله بالربوبية، ثم الإيمان بالبعث والإقرار لله بملك يوم الدين، ثم الالتزام بالعبادة لله وحده والالتجاء إليه مستعينًا به، مستهديًا الصراط المستقيم، سائلًا صحبة الذين أنعم عليهم.
ثم يأتي بعدها مباشرة في أول سورة البقرة {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، أي أن الهدى الذي تنشده إلى الصراط المستقيم، فهو في هذا الكتاب لا ريب فيه، ثم بين المتقين الذي أنعم الله عليهم بقوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3-4].
ورة أخرى للتأكيد: أولئك لا سواهم على هدى من ربك وأولئك هم المفلحون.
ثم تترسل السورة في تقسيم الناس إلى الأقسام الثلاثة: مؤمنين وكافرين ومذبذبين بين بين وهم المنافقون.
ثم يأتي النداء الصريح وهو أول نداء في المصحف لعموم الناس {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، ويقيم البراهين على استحقاقه للعبادة وعلى إمكان البعث بقوله: {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وبعد تقرير الأصل وهي العقيدة، تمضي السورة في ذكر فروع الإسلام، فتشتمل على أركان الإسلام كلها وعلى كثير من مسائل المعاملات والجهاد، وقلَّ من أبواب الفقه إلا وله ذكر في هذه السورة، ويأتي ما بعدها مبينًا لما أجمل فيها أو لما يذكر ضمنها.
وهكذا حتى ينتهي القرآن بكمال الشريعة وتمام الدين.
ولما جاء في وصف المتقين المهتدين في أول المصحف، أنهم يؤمنون بالغيب ومنه الإيمان باليوم الأخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب، أمور الغيب تستلزم اليقين، لترتب الجزاء عليه ثوابًا أو عقابًا.
والثواب: والعقاب هما نتيجة الفعل والترك.
والفعل والترك: هما مناط التكليف، لأن الإنسان يمتثل الأمر رجاء الثواب، ويكف عن متعلق النهي مخافة العقاب.
فلكأن نسق المصحف يشير إلى ضرورة ما يجب الانتباه إليه، من أن القرآن بدأ بالحمد ثناءً على الله بما أنعم على الإنسان بإنزاله، وإرسال الرسول صاحبه به، ثم نقله من عالم الدنيا إلى عالم الأخرة، وهو الأعظم قدرًا وخطرًا، ثم رسم له الطريق الذي سلكه المهتدون أهل الإنعام والرضى، ثم أوقفه عليه ليسلك سبيلهم.
وهكذا إلى أن جاء به بعد كمال البيان والإرشاد والهداية، جاء به إلى نهاية هذا الصراط المستقيم، فاستوقفه ليقول له إذا اطمأننت لهذا الدين، وآمنت بالله رب العالمين، واعتقدت مجيء يوم الدين، وعرفت طريق المهتدين ورأيت أقسام الناس الثلاث مؤمنين وكافرين ومنافقين، ونهاية كل منهم، فالزم هذا الكتاب، وسر على هذا الصراط ورافق أهل الإنعام، وجانب المغضوب عليهم والضالين، واحذر من مسلك المنافقين المتشككين، وحاذر كل الحذر من موجب ذلك كله، وهو الوسواس الخناس، أن يشكك في متعلقات الإيمان، أو في استواء طريقك واستقامته أو في عصمة كتابك وكماله، وكن على يقين مما أنت عليه، ولا تنس خطره على أبويك من قبل، وكن كسلفك الصالح إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
وقد علمت عداوته لك من بعد، وعداوته ناشئة عن الحسد.
ولكأن ارتباط السورتين ليشير إلى منشأ تلك العداوة وارتباطها بها التحذير، إذ في الأولى: ومن شر حاسد إذا حسد، فحسد الشيطان آدم على إكرام الله إياه كما أسلفنا.
والعدو الحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة عن المحسود، ولئن كانت توبة آدم هي سبيل نجاته، كما في قوله تعالى: {فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
فنجاتك أيضًا في كلمات تستعيذ بها من عدوك: برب الناس ملك الناس إله الناس، لأن الرب هو الذي يرحم عباده، وملك الناس هو الذي يحميهم ويحفظهم ويحرسهم.
وإله الناس الذي يتألهون إليه ويتضرعون ويلوذون به سبحانه.
تنبيه:
إذا كان هذا كله خطر الوسواس الخناس من الجنة والناس، وهما عدو مشترك ومتربص حاقد حاسد، فما طريق النجاة منه؟
الذي يظهر، والله تعلاى أعلم: أن طريق النجاة تعتمد على أمرين:
الأول: يؤخذ من عمومات الكتاب والسنة.
والثاني: سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه.
أما الأول فهو: إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد، فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159]، وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35].
وقال: صلى الله عليه وسلم: «دع ما يربيك إلا ما لا يربيك». والقاعدة الفقيهة (اليقين لا يرفع بشك).
والحديث: «يأتي الشيطان لأحدكم وهو في الصلاة فينفخ في مقعدته، فيتخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا».
ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين، فالعقائد لابد فيها من اليقين. والفروع في العبادات لابد فيها من النية «إنما الأعمال بالنيات».
والشرط في النية الجزم واليقين، فلو نرى الصلاة على أنه إن حضر فلان تركها، لا تنعقد نيته، ولو نوى صومًا أنه إن شاء أفطر، لا ينعقد صومه.
ونص مالك في الموطإ، أنه نوى ليوم الشك في ليلته الصوم غدًا، على أنه إن صح من رمضان فهو لرمضان، وإلا فهو نافلة، لا ينعقد صومه لا فرضًا ولا نفلًا حتى لو جاء رمضان لا يعتبر له منه، وعليه قضاؤه لعدم الجزم بالنية.
والحج: لو نواه لزمه ولزمه المضي فيه، ولا يملك الخروج منه باختباره.
وهكذا المعاملات في جميع العقود مبناها على الجزم حتى في المزح واللعب، يؤاخذ في البعض كالنكاح والطلاق والعتاق.
فمن هذا كله، كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف، مما يقضي على نوازع الشك والتردد، ولم يبق في قلب المؤمن جال لشك ولا محل لوسوسة.
وقد كان الشيطان يفر من طريق عمر رضي الله عنه.
أما الذي كنت سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فقوله: لقد علمنا الله كيفية اتقاء العدو من الإنس ومن الجن.
أما العدو من الإنس ففي قوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
فدل على أن مقابلة إساءة العدو بالإحسان إليه تذهب عداوته، وتكسب صداقته، كما قال تعالى: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} السيئة.
وأما عدو الجن ففي قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم}
[فصلت: 36].
وهو ما يدل عليه ما تقدم من الآثار من أن الشيطان يخنس إذا سمع ذكر الله.
وعلى قوله رحمه الله: فإن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة منه بالله، ويكفيه ذلك، لأن كيد الشيطان كان ضعيفًا.
أما شيطان الإنس فهو في حاجة إلى مصانعة ومدافعة والصبر عليه، كما يرشد إليه قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
رزقنا الله تعالى وجميع المسلمين حظًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، إنه المسؤول، وخير مأمول.
روى ابن كثير حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يتعوذ من أعين الجن والإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما». رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. وروي عن عبد الله الأسلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال: «قل» فلم أدر ما أقول.
ثم قال لي: «قل» فقلت: هو الله أحدج، ثم قال لي: قل.
قلت: أعوذ برب الفلق من شر ما خلق حتى فرغت منها، ثم قال لي قل.
قلت: أعوذ برب الناس حتى فرغت منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا فتعوّذ. وما تعوَّذ المتعوذون بمثلهن قط».
والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله وسلم على أفضل خلقه وأكرمهم عليه، من اصطفاه لرسالته وشرفنا ببعثته، وختم به رسله وكرَّمنا به وهدانا لاتباعه، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين. إنه سميع مجيب. اهـ.